فصل: تفسير الآيات (7- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 8):

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}
قلت: {وإذ}: ظرف لاذكر، محذوفة، و{أنها لكم}: بدل اشتمال من {إحدى الطائفتين}؛ والشوكة: الحدة، مستعارة من واحد الشوك، وسميت الحرب شوكة لحدة سلاحها.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكروا {إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين}؛ قريشاً أو عِيرهَم، وعدكم {أنها لكم وتَودون}؛ وتتمنون {أنَّ غير ذات الشوكة} أي: ذات الحرب {تكونُ لكم} وهي العير، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلاً، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عَدَدِهِمِْ وعُددهم، {ويريد الله أن يُحق الحق} أي: يظهر الحق، وهو الإسلام، بقتل الكفار وهلاكهم في تلك الغزوة، {بكلماته} أي: بإظهار كلماته العليا، أو بكلماته التي أوحى بها في هذه الحال، أو بأوامره للملائكة بالأمداد، أو بنفود كلماته الصادقة بهلاكهم، {ويقطع دابر الكافرين} أي: يستأصلهم ويقطع شوكتهم.
ومعنى الآية: أنكم تُريدون أن تُصيبوا مالاً ولا تلقوا مكروهاً، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين، وإنما فعل ما فعل من سوقكم إلى القتال؛ {ليُحق الحق ويُبطل الباطل} أي: ليُظهر الدين ويبطل الكفر.
قال البيضاوي: وليس بتكرار؛ لأن الأول لبيان المراد، وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على اختيار ذات الشوكة وقصره عليها. اهـ. وقال ابن جزي: ليس تكرار للأول؛ لأن الأول مفعول يريد، هذا تعليل لفعل الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة، وبالحق الثاني الإسلام، فيكون المعنى: أنه نصرهم ليظهر الإسلام، ويؤيد هذا قوله: {ويُبطل الباطل} أي: يُبطل الكفر، {ولو كره المجرمون} ذلك، فإن الله لابد أن يظهر دينه على الدين كله، ولو كره الكافرون.
الإشارة: وعد الله المتوجهين إليه بالوصول إلى سر الخصوصية، وهي الولاية، لكن بعد المجاهدة والمحاربة للنفوس؛ لأن الحضرة لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتدريب، وترى كثيراً من الناس يتمنون أن تكون لهم من غير حرب ولا قتال، ويريد الله أن يحق الحق بكشف الحجب عن القلوب، حتى لا يشاهدوا إلا الحق، ويُبطل الباطل، وهو السَّوي، ولا يكون في العادة إلا بعد موت النفوس وتهذيبها وتطهيرها بالرياضة على شيخ عارف. قال الششتري مترجماً عن لسان الحقيقة:
أن تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ ** لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه

.تفسير الآيات (9- 10):

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
قلت: {إذ}: بدل من {إذ يعدكم} أو متعلق بقوله: {ليحق الحق} أو باذكر.
يقول الحق جلاله: واذكروا حين كنتم {تستغيثون ربكم} وتدعون بالغوث والنصر، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لمّا علموا ألاّ محيص لهم عن القتال أخذوا يقولون: ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا.
وعن عمر رضي الله عنه: أنه نَظَرَ إلى المُشْرِكِينَ وهُمْ أَلفٌ، وإلى أَصْحَابِهِ وهُمْ ثَلاثُمائةٍ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةِ ومدَّ يديهِ يدعوه: «اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعدْتَنِي، اللهُم إن تَهْلِكْ هذه العصابة لم تُعْبَد في الأرْضِ»، فما زَالَ كَذَلِك َحتى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فقال أَبُو بكر، كَفَاكَ مُنَاشَدَتك رَبَّكَ، فإِنَّهُ سيُنْجِزُ لَكَ ما وَعَدَكَ.
وقد تقدم أن الأنبياء وكبراء الأولياء لا يقفون مع ظاهر الوعد والوعيد لسعة دائرة علمهم، بل لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، ولعل ذلك الوعد يكون متوقفاً على شروط أخفاها الحق تعالى؛ لتظهر قهريته وانفراده بالعلم المحيط.
ولما استغاثوا بالله وأظهروا الحاجة إليه أجابهم فقال: {فاستجاب لكم أني مُمدكم}؛ مقويكم ومكثركم {بأَلْفٍ من الملائكة مُردفين} يتبع بعضهم بعضاً، ويتبع المؤمين، فكانوا خلفهم ردْءاً لهم، فمن قرأ بفتح الدال فهو اسم مفعول، ومن قرأه بالكسر فاسم فاعل، وصح معنى القرءتين، لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضاً، فمنهم تابعون ومتبوعون، ومن قرأ بالفتح فالمراد مردفين بالمؤمنين، فكانوا مقدمة الجيش، ومن قرأ بالكسر فالمراد مردفين للمؤمنين تابعين لهم، فكانوا ساقة للجيش.
ثم ذكر حكمة الإمداد بقوله: {وما جعله الله} أي: الإمداد {إلا بُشرى} أي: بشارة بالنصر، {ولتطمئن به قلوبكم} فيزول ما بها من الوجل لقلتكم، {وما النصر إلا من عند الله}؛ لا يتوقف على سبب، {إن الله عزيز} لا يغلب {حكيم} في تدبير الأسباب وترتيبها رداء للقدرة الأزلية، فإمداد الملائكة، وكثرة العدد، والتأهب، وسائط، لا تأثير لها، فلا تحسبوا النصر منها، ولا تيأسوا منه بفقدها، فحكم الأزل جلّ أن يضاف إلى العلل.
الإشارة: إظهار الفاقة الابتهال لا يقدح في صحة التوكل على الكبيرالمتعال، بل هو شرف للإنسان، وتقريب من الكريم المنان، بل من شأن العارف الكامل الرجوع إلى الله في كل شيء، والتعلق به في كل حال، ولو وعده بالنصر أو الإجابة، لا يقطع عنه السؤال، عبوديةً وتملقاً بين يدي الحبيب.
وقد اختلف الصوفية: أي الحالين أشرف: هل الدعاء والتضرع؟ أو السكوت والرضى تحت مجاري الأقدار؟ وقال بعضهم: يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه، صاحب رضى بقلبه، ليجمع بين الأمرين. قال القشيري: والأَوْلى أن يُقال: إن الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضلُ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل، وإنما يُعرف ذلك في الوقت؛ لأن علم الوقت يحصل في الوقت، فإذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء؛ فالدعاء منه أولى، وإذا وجل إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. اهـ. وقد تقدم في آل عمران إشارة الإمداد. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (11- 12):

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)}
قلت: {إذا} بدل ثان من (إذ يعدكم)، أو متعلق بالنصر، لِمَا في (عند الله) من معنى الفعل، أو بإضمار اذكروا، ومن قرأ بضم الياء، فهو من أغشى، أي: غطى، ومن قرأ بالتشديد، فهو من غشي المضعف، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين، الكاف الأول والنعاس الثاني، ومن قرأ بالفتح والتخفيف، فهو من غشى يغشى؛ المتعدي إلى واحد و(وأمنة): مفعول من أجلة.
يقول الحق جل جلاله: واذكروا {إذ يُغشيكم}، أي: حين كان يغشيكم {النُعاسَ} وأنتم في القتال، حين ينزل عليكم الأمْن من العدو بعد شدة الخوف، وذلك لأجل الأمن الذي نزل من الله عليكم بعد شدة خوفكم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: النعاس عند حضور القتال علامة أَمْنٍ مِنَ العدو.
ثم ذكّرهم بمنة أُخرى، فقال: {ويُنزل عليكم من السماء ماء ليُطهركم به} من الحدث والجنابة، {ويُذهب عنكم رجز الشيطان} أي: وسوسته وتخويفه إياهم من العطش، رُوي أنهم نزلوا في كثيب رمل دهس، تسوخ فيه الأقدام على ماء قليل، وناموا فاحتلم أكثرهم، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: كيف تُنصرون وأنتم تصلون محدثين مجنبين، وتزعمون أنكم أولياء الله فيكم رسوله؟ فأشفقوا، فأنزل الله المطر، فمُطروا ليلاً حتى جرى الوادي، فاتخذوا الحياض على عدوته، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الدهوسة، وهذا معنى قوله: {وليَرِبطَ على قلوبكم ويُثبتَ به الأقدام} أي؛ وليربط على قلوبكم بالوثوق على لطف وزوال ما وسوس إليهم الشيطان، وذهاب الكسل عنها. {ويُثبت به الأقدام} حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في مداحض الحرب.
واذكروا أيضاً: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} أي: أُثبت أقدامكم حين أُوحي إلى الملائكة أني معكم في نصر المؤمنين وتثبيتهم {فثبتوا الذين آمنوا} بتكثير عددهم، أو بالبشارة لهم، أو بمحاربة أعدائهم، على قول من قال: إنهم باشروا القتال. {سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} والجزع حتى لا يثبتوا لقتالكم، يحتمل أن يكون من خطاب الله للملائكة، أو استئناف؛ إخباراً للمؤمنين عما يفعله بعدوهم عاجلاً وآجلاً. ثم قال للملائكة أو للمؤمنين: {فاضربوا فوق الأعناق} أي: أعاليها التي هي المذابح والرؤوس، {واضربوا منهم كل بَنَان} أي: أصابعهم، أي: جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.
الإشارة: كان شيخ شيخنا يُشير على الفقراء، إذا كثرت عليهم الخواطر والهواجس، بالنوم، ويقول؛ من تشوش خاطره فليرقد حتى يشبع من النعاس، فإنه يجد قلبه؛ لأن النعاس أمنة من الله يذهب به رجز الشيطان وثقله، ويربط على القلوب في الحضرة؛ لأنه زوال، وإذا زال العبد ظهر الحق وزهق الباطل.
وقوله تعالى: {ويُنزل عليكم من السماء ماء}: هو ماء الغيب الذي يطهر القوب من شهود السَّوى، ويذهب به رجز الشيطان، وهي ظلمة الأكوان، التي تنعقد في القلب من حب الهوى الذي هو من تزيين الشيطان، ويثبت به الأقدام، حتى تثبت عند مصادمة أنوار الحضرة، التي هي تجلي الذات، فلا يثبت لها إلا الشجعان والأبطال وأكابر الرجال. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (13- 14):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)}
قلت: {ذلكم}: مبتدأ حُذف خبره، أي: ذلكم العقاب أو العذاب، أو خبر، أي: الأمر ذلكم، أو منصوب بمضمر يفسره فذوقوه، و(الكافرون): عطف على {ذلكم}، أو نصب على المفعول معه، وقرئ بالكسر؛ استئنافاً.
يقول الحق جل جلاله: {ذاك} الضرب لأعناق الكفار، أو الأمر به {بأنهم}؛ بسبب أنهم {شاقوا} أي: خالفوا {الله ورسوله}، وصاروا كأنهم في شق وهو في شق؛ مبالغة في المخالفة والمباعدة، {ومن يشاقق الله ورسوله} ويبعد عنهما {فإن الله شديد العقاب} لكم من خالفه أو خالف رسوله، وهو تقرير للتعليل، أو وعيد بما أعد الله لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا، {ذلكم} العذاب {فذوقوه} وباشروا مرارته، {وأنَّ للكافرين عذابَ النار}، والمعنى: ذُوقوا ما عجل لكم من النقمة في الدنيا مع ما يحل عليكم في الآخرة من عذاب النار، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن الكفر سبب العذاب العاجل والآجل.
الإشارة: مخالفة الله ورسوله توجب الطرد والبعاد، وموافقة الله ورسوله توجب القربة والوداد، وهذا الموافقة التي توجب للعبد المحبة والوداد تحصل بخمسة أشياء: امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإكثار من ذكره، الاستسلام لقهره، والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم والتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، وبأضداد هذه الأشياء يحصل للعبد المخالفة التي توجب طرده وبُعده، وهي مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، والغفلة عن ذكره، والتسخط عند نزول قهره، وعدم الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم؛ بارتكاب البدع المحرمة والمكروهة، حتى يُفضى به الحال إلى المشاققة والمباعدة، {ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} بالله التوفيق.

.تفسير الآيات (15- 16):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}
قلت: {زحْفاً}: مصدر، وزحف الصبي إذا دب على مقعده قليلاً قيلاً، سمى به الجيش المقابل للقتال؛ لأنه يندفع للقتال شيئاً فشيئاً، ونصبه على الحال من فاعل {لقيتم} أو من {الذين كفروا} و{متحرفاً} و{متحيزاً}: حالان، و{إلا} مُلغاة، ووزن متحيز: متفيْعل، لا متفعل، وإلا كان متحوزاً؛ لأنه من حاز يحوز.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا} زاحفين لهم، تدبون إليهم ويدبون إليكم، تريدون قتالهم متوجهين إليهم، {فلا تُولوهم الأدبارَ} بالانهزام عنهم، فإنه حرام، وهو من الكبائر، ويفيد بألا يكون الكفار أكثر من ثلثي المسلمين، فإن زادوا على ثلثي المسلمين حلَّ الفرار، وأن يكون المسلمون مسلحين، وإلا جاز الفرار ممن هو بالسلاح دونه، {ومن يُولَّهم يومئذ دُبُره إلا متحرفاً لقتالِ}، وهو أن يكرّ راجعاً أمام العدو ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو من مكائد الحرب، {أو متحيزاً إلى فئة} أي: منحازاً إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب، أو قريبة فالتحيز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيز إلى المدينة، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضراً.
ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أنا فئة لكل مسلم. ورُوي عن ابن عمر: أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وففَرُّوا إلى المدينة، فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، نحن الفَرَّارُونَ، فقال: «أًنْتُم الكرَّارُونَ، وأنا فِئَتُكُمْ».
فمن فرَّ من الجهاد بالشرط المتقدم {فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنمُ وبئس المصيرُ}، ومن هذا يفهم أنه من الكبائر. قال البيضاوي: وهذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله: {الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُم...} [الأنفال: 66] الآية، وقيل: الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرون معه في الحرب. اهـ.
الإشارة: يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه بالمجاهدة والمكابدة: إذا لقيتم أعداءكم من القواطع؛ كالحظوظ، والشهوات، وسائر العلائق، فاثبتوا حتى تظفروا، ولا ترجعوا وتولوهم الأدبار فيظفروا بكم، إلا متحيزاً لقتال؛ بإيثار بعض الرخص، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها، أو متحيزاً إلى جماعة من أكابر العارفين، فإنهم يُغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة، إذا ملكهم زمام نفسه، وفعل كل ما يُشيرون به عليه، فإن ذلك يُفضي به إلى الراحة بعد التعب، والمشاهدة بعد المجاهدة، إذا لا تجتمع المجاهدة في الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق.
قال القشيري بعد كلامه على الآية: فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خَدَمِهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء يُنفقون على مريديهم من هِمَمِهم؛ يجبرون كَسْرَهم وينوبون عنهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم، ومَنْ أهمل مريداً وهو يعرف صِدْقه، أو خالف شيخاً وهو يعرف فضله، وحَقَّه، فقد بَاءَ من الله بسخط، واللّهُ تعالى حسيبُه في مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. اهـ.

.تفسير الآيات (17- 18):

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}
يقول الحق جل جلاله: فَلَمْ تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم، وقلّة عُدتكم وعدَدكم، وكثرة عدوكم وعُدتهم، {ولكن اللَّه قتلهمْ} بواسطة مباشرتكم، حيث أيدكم وسلطكم عليهم، وإمداد الملائكة لكم، وإلقاء الرعب في قلوب عدوكم.
قال البيضاوي: رُوي أنه لما أَطلَّتْ قريش من العقنقل اسم جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بخُيَلائِهَا وفَخْرِهَا، يُكَذِّبُونَ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي»، فأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَال له: خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فارْمِهِمْ بِهَا، فلمَّا التَقَى الجَمعَأن تناول كفّاً من الحَصْبَاءِ فَرَمَى بها في وُجُوهِهِم، وقال: «شَاهَتْ الوُجُوهُ» فَلَمْ يَبق مُشْرِكٌ إلا شُغِلَ بَعَيْنَيْهِ، فانْهَزَمُوا. وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل: قتلتُ وأسرتُ، فنزلت الآية، وإلغاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلَمْ تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، {وما رميتَ} يا محمد رمياً توصها إلى أعينهم. ولم تقدر عليه {إذْ رميتَ} أي: حين ألقيت صورة الرمي، {ولكنَّ الله رَمَى}، أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعاً، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم. اهـ. فالرمي، حقيقة، إنما وقع من الله تعالى، وإن ظهر حساً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما فعل ذلك ليقطع طرفاً من الكفار، ويحد شوكتهم، {وليُبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً} أي: ليختبر المؤمنين منه اختباراً حسناً، ليظهر شكرهم على هذه النعمة، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة؛ بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات، {إن الله سميع} لاستغاثتهم ودعائهم، {عليم} بنياتهم وأحوالهم. {ذلكم} أي: البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي، واقع لا محالة، أو الأمر ذلكم، {وأن الله موهن كيد الكافرين} أي: مضعف كيد الكافرين، ومبطل حيلهم، أي: المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
الإشارة: يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم: فلَمْ تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم؛ إذ لا طاقة لكم عليها، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد، حتى حييت بمعرفته، ويقول الشيخ: وما رميت القلوب بمحبتي ومعرفتي، ولكن الله رمى تلك القلوب بشيء من ذلك، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية، لا تأثير لك في شيء من ذلك.
حُكي أن الحلاج، لما كان محبوساً للقتل، سأله الشبلي عن المحبة، فقال: الغيبة عما سوى المحبوب، ثم قال: يا شبلي، ألست تقرأ كتاب الله؟ فقال الشبلي: بلى، فقال: قد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}، يا شبلي؛ إذ رَمَى اللَّهُ قَلْبَ عبده بِحَبََّةٍ من حُبّه، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. اهـ. والمقصود بذلك: تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. والله تعالى أعلم.